فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبي صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجابتُها مرجوة، إذ ليس هذا المقول مشتملًا على شيء يُكلف به أو يُعمل حتى يكون المراد: قل لهم كذا كما في قوله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة.
وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال: «قِيل لي قُل فقلتُ لكم فقولوا».
يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كَلِمة {قُل}. والخطاب {بقُل} للنبي صلى الله عليه وسلم وإذ قد كان قرآنا كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضًا كان يعوِّذ بهما الحَسَن والحُسَيْن كما ثبت في (الصحيح)، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنَيي الخطاب من توجُّهه إلى معيّن وهو الأصل، ومن إرادة كلّ من يصح خطابُه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.
واستعمال صيغة التكلم في فعل {أعوذ} يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل {قل} فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها.
وأما تعويذُ قارئها غيرَه بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين، وما رُوي عن عائشة قالت: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقُل كنت أنفث عليه بهن وأمْسح بيدِ نفسه لبركتها»، فذلك على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ.
والعَوْذ: اللجأ إلى شيء يقِي من يلجأُ إليه ما يخافه، يُقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال: استعاذ، إذا سأل غيره أن يُعيذه قال تعالى: {فاستعِذ باللَّه إنه سميع عليم} [الأعراف: 200].
وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى: {فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
و{الفلق}: الصبح، وهو فَعَل بمعنى مفعول مثل الصَّمَد لأن الليل شبه بشَيء مغلق ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفَلْق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل، وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى: {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} [النازعات: 29]، واستعارة السلخ له في قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37].
وربُّ الفلق: هو الله، لأنه الذي خلق أسبابَ ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شرًا كثيرًا يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعُسر النجدة، وبُعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر.
والمعنى: أعوذ بفالق الصبح مَنجاةً من شرور الليل، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح، فوُصفَ الله بالصفة التي فيها تمهيدٌ للإِجابة.
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)}
عطف أشياء خاصة هي ممَّا شمِله عموم {من شر ما خلق} [الفلق: 2]، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور:
أحدها: وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.
والثاني: صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.
والثالث: صنف من الناس ذُو خُلُق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.
وأعيدت كلمة {من شر} بعد حرف العطف في هذه الجملة.
وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغنٍ عن إعادة العامل قصدًا لتأكيد الدعاء، تعرضًا للإِجابة، وهذا من الابتهال فيناسبه الإِطناب.
والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال: غَسَق الليل يغسق، إذا أظلم قال تعالى: {إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]، فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى: {ومن آياته الجوار في البحر} [الشورى: 32] وتنكير {غاسق} للجنس لأن المراد جنس الليل.
وتنكير {غاسق} في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم.
ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة: يا أهل ذا المعنى وقيتُم ضُرًا. أي وقيتم كل ضر.
وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى (في) كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهارِ} [سبأ: 33].
والليل: تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفًا.
وتقييد ذلك بظرف {إذا وقب} أي إذا اشتدت ظلمته لأن ذلك وقت يتحيّنه الشطَّار وأصحاب الدعارة والعَيث، لتحقّق غلبَة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال: أغْدَر الليلُ، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدْر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدَر، أي صار ذا غَدر على طريق المجاز العقلي.
ومعنى {وقب} دخل وتغلغل في الشيء، ومنه الوَقْبة: اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقبت الشمس غابت، وخُص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعًا لحصول المكروه.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)}
هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله: {من شر ما خلق} [الفلق: 2].
وعُطف {شر النفاثات في العقد} على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحَرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد.
والنفث: نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعَقدوا عليه عُقَدًا ثم نفثوا عليها.
فالمراد بـ: {النفاثات في العقد}: النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحرَ النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتَّكهن ونحو ذلك، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن، وكان العرب يزعمون أن الغُول ساحرةٌ من الجِن.
وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتُّهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعَا له السوَاحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائمًا على وجهه ولحق بالوحوش.
و{العُقد}: جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وَتَر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة، ولذلك يخافون من حَلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور، قال تعالى: {وقال الظالمون إنْ تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} [الفرقان: 8].
وجملة القول هنا: أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها.
وأمّا السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى: {يعلِّمون الناس السحر} في سورة البقرة (102).
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفْث، فلم يقل: إذا نفثن في العقد، للإِشارة إلى أن نفثهن في العُقد ليس بشيء يجلب ضرًا بذاته وإنما يجلب الضر النافثاتُ وهن متعاطيات السحر، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئًا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلاّ احتال على إيصاله إليه، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد، أو قاذورات يُفسد اختلاطُها بالجسد بعضَ عناصر انتظام الجسم يختلّ بها نشاط أعصابه أو إرادته، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليُرِي لمن يسألونه السحر أن سحره لا يتخلف ولا يخطئ.
وتعريف {النفاثات} تعريف الجنس وهو في معنى النكرة، فلا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله: {ومن شر غاسق} [الفلق: 3] وقوله: {ومن شر حاسد} [الفلق: 5].
وإنما أوثر لفظ {النفاثات} بالتعريف لأن التعريف في مثله للإِشارة إلى أن حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم: (أرسلها العراك) كما تقدم في قوله تعالى: {الحمد للَّه} في سورة الفاتحة.
وتعريف {النفاثات} باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب.
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}
عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرةً وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاهُ لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل، لأن الليل وقت الخلوة وخطورِ الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود.
والحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها.
وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازًا.
والغبطة: تمنّي المرء أن يكون له من الخير مثلُ ما لمن يروق حاله في نظره، وهو محمل الحديث الصحيح: «لا حَسَدَ إلا في اثنتين» أي لا غبطة، أي لا تحق الغبطة إلا في تينك الخصلتين، وقد بين شهاب الدين القرأفي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين.
فقد يغلب الحسدُ صبرَ الحاسد وأناتَه فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأسًا.
وقد كان الحسد أولَ أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قُبِل قربانه ولم يقبل قُربان الآخر، كما قصّه الله تعالى في سورة العقود.
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت: {إذا حسد} لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسُود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإِلحاق الضرّ به.
والمراد من الحسد في قوله: {إذا حسد} حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته، فلا إشكال في تقييد الحسد بـ: {حسد} وذلك كقول عمرو بن معد يكرب:
وبَدَت لميسُ كأنَّها ** بَدْرُ السماءِ إذا تَبَدَّى

أي تجلى واضحًا منيرًا.
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود، وبعكسه الكناية عن سيّئ الحال بالحاسد، وعليه قول أبي الأسود:
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداءٌ له وخصوم

كضرائرِ الحسناء قُلْنَ لوجهها ** حَسَدًا وبُغضًا إنّه لَمشُوم

وقول بشار بن بُرد:
إن يحْسدوني فإني غيرُ لائمهم ** قَبْلي من الناس أهلُ الفَضْل قد حُسِدوا

فدَام لي ولَهُم مَا بي وما بِهِمُ ** وماتَ أكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِد

اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله- سبحانه- لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام..
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه. {قل أعوذ برب الفلق}.. {قل أعوذ برب الناس}..
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استروحه في عمق وفرح وانطلاق:
عن عقبة- ابن عامر- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟ قل: أعوذ برب الفلق وقل: أعوذ برب الناس»..
وعن جابر- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا جابر».
قلت: ماذا بأبي أنت وأمي؟ قال: «اقرأ: {قل أعوذ برب الفلق}. و{قل أعوذ برب الناس}» فقرأتهما. فقال: «اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما»..
وعن ذر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب- رضي الله عنه- عن المعوذتين.
قلت: يا أبا المنذر إن أخاكابن مسعود يقول كذا وكذا وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قيل لي: قل. فقلت». فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة.. وهنا في هذه السورة يذكر الله- سبحانه- نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة.
{قل أعوذ برب الفلق}.. والفلق من معانيه الصبح، ومن معانيه الخلق كله. بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة، كما قال في الأنعام: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي}.. وكما قال: {فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا}..
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمن بالنور من شر كل غامض مستور، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمن من شر خلقه، فالمعنى يتناسق مع ما بعده..
{من شر ما خلق}.. أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
{ومن شر غاسق إذا وقب}.. والغاسق في اللغة الدافق، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء. والمقصود هنا- غالبا- هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب!
{ومن شر النفاثات في العقد}.. والنفاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام: سورة طه {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى.. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى...}.
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا، ولكن خيل إلى الناس- وموسى معهم- أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة، حتى جاءه التثبيت. ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة.
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها. وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه.. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد.. وهي شر يستعاذ منه بالله، ويلجأ منه إلى حماه.
وقد وردت روايات- بعضها صحيح ولكنه غير متواتر- أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي- صلى الله عليه وسلم في المدينة.. قيل أياما، وقيل أشهرا.. حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم فلما استحضر السحر المقصود- كما أخبر في رؤياه- وقرأ السورتين انحلت العقد، وذهب عنه السوء.
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله- صلى الله عليه وسلم وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول- صلى الله عليه وسلم أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم تستبعد هذه الروايات.. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه الروايات ليست من المتواتر. فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى.
{ومن شر حاسد إذا حسد}.. والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها. وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود، وأسرار النفس البشرية، وأسرار هذا الجهاز الإنساني. فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلا.. هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد. وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين. اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها. ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات. وكذلك التنويم المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكررة المثبتة. وهو مجهول السر والكيفية.. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني... فإذا حسد الحاسد، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته. فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان. وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
فهنا شر يستعاذ منه بالله، ويستجار منه بحماه والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله- صلى الله عليه وسلم وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور. ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به- وفق توجيهه- أعاذهم. وحماهم من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا.
وقد روى البخاري- بإسناده- عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما.
وقرأ فيهما، {قل هو الله أحد}.. و{قل أعوذ برب الفلق}.. و{قل أعوذ برب الناس}.. ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.. وهكذا رواه أصحاب السنن.. اهـ.